فصل: تفسير الآيات رقم (51- 56)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏51- 56‏]‏

‏{‏إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ‏}‏‏.‏

قد أورد أبو جعفر بن جرير، رحمه الله تعالى، عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا‏}‏ سؤالا فقال‏:‏ قد عُلِم أن بعض الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، قتله قومه بالكلية كيحيى وزكريا وشعياء، ومنهم من خرج من بين أظهرهم إما مهاجرا كإبراهيم ، وإما إلى السماء كعيسى ، فأين النصرة في الدنيا‏؟‏ ثم أجاب عن ذلك بجوابين‏.‏

أحدهما‏:‏ أن يكون الخبر خرج عاما، والمراد به البعض، قال‏:‏ وهذا سائغ في اللغة‏.‏

الثاني‏:‏ أن يكون المراد بالنصر الانتصار لهم ممن آذاهم، وسواء كان ذلك بحضرتهم أو في غيبتهم أو بعد موتهم، كما فُعِلَ بقتلة يحيى وزكريا وشعياء، سلط عليهم من أعدائهم من أهانهم وسفك دماءهم، وقد ذكر أن النمروذ أخذه الله أخذ عزيز مقتدر، وأما الذين راموا صلب المسيح، عليه السلام، من اليهود، فسلط الله عليهم الروم فأهانوهم وأذلوهم، وأظهرهم الله عليهم‏.‏ ثم قبل يوم القيامة سينزل عيسى ابن مريم إماما عادلا وحكما مقسطا، فيقتل المسيح الدجال وجنوده من اليهود، ويقتل الخنزير، ويكسر الصليب، ويضع الجزية فلا يقبل إلا الإسلام‏.‏ وهذه نصرة عظيمة، وهذه سنة الله في خلقه في قديم الدهر وحديثه‏:‏ أنه ينصر عباده المؤمنين في الدنيا، ويقر أعينهم ممن آذاهم، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏يقول الله تعالى‏:‏ من عادى لي وليا فقد بارزني بالحرب‏"‏ وفي الحديث الآخر‏:‏ ‏"‏إني لأثأر لأوليائي كما يثأر الليث الحرب‏"‏ ؛ ولهذا أهلك تعالى قوم نوح وعاد وثمود، وأصحاب الرس، وقوم لوط، وأهل مدين، وأشباههم وأضرابهم ممن كذب الرسل وخالف الحق‏.‏ وأنجى الله من بينهم المؤمنين، فلم يهلك منهم أحدًا وعذب الكافرين، فلم يفلت منهم أحدا‏.‏

قال السدي‏:‏ لم يبعث الله رسولا قط إلى قوم فيقتلونه، أو قوما من المؤمنين يدعون إلى الحق فيقتلون، فيذهب ذلك القرن حتى يبعث الله لهم من ينصرهم، فيطلب بدمائهم ممن فعل ذلك بهم في الدنيا‏.‏ قال‏:‏ فكانت الأنبياء والمؤمنون يقتلون في الدنيا، وهم منصورون فيها‏.‏وهكذا نصر الله ‏[‏سبحانه‏]‏ نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه على من خالفه وناوأه، وكذبه وعاداه، فجعل كلمته هي العليا، ودينه هو الظاهر على سائر الأديان‏.‏ وأمره بالهجرة من بين ظهراني قومه إلى المدينة النبوية، وجعل له فيها أنصارا وأعوانا، ثم منحه أكتاف المشركين يوم بدر، فنصره عليهم وخذلهم له، وقتل صناديدهم، وأسر سراتهم، فاستاقهم مقرنين في الأصفاد، ثم من عليهم بأخذه الفداء منهم، ثم بعد مدة قريبة فتح ‏[‏عليه‏]‏ مكة، فقرت عينه ببلده، وهو البلد المحرم الحرام المشرف المعظم، فأنقذه الله به مما كان فيه من الشرك والكفر، وفتح له اليمن، ودانت له جزيرة العرب بكمالها، ودخل الناس في دين الله أفواجا‏.‏ ثم قبضه الله، تعالى، إليه لما له عنده من الكرامة العظيمة، فأقام الله أصحابه خلفاء بعده، فبلغوا عنه دين الله، ودعوا عباد الله إلى الله‏.‏ وفتحوا البلاد والرّساتيق والأقاليم والمدائن والقرى والقلوب، حتى انتشرت الدعوة المحمدية في مشارق الأرض ومغاربها‏.‏ ثم لا يزال هذا الدين قائما منصورا ظاهرا إلى قيام الساعة؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ‏}‏ أي‏:‏ يوم القيامة تكون النصرة أعظم وأكبر وأجل‏.‏

قال مجاهد‏:‏ الأشهاد‏:‏ الملائكة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ‏}‏ بدل من قوله‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ‏}‏‏.‏

وقرأ آخرون‏:‏ ‏"‏يَوْمُ‏"‏ بالرفع، كأنه فسره به ‏{‏وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِين‏}‏، وهم المشركون ‏{‏مَعْذِرَتُهُم‏}‏ أي‏:‏ لا يقبل منهم عذر ولا فدية، ‏{‏وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ‏}‏ أي‏:‏ الإبعاد والطرد من الرحمة، ‏{‏وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ‏}‏ وهي النار‏.‏ قاله السدي، بئس المنزل والمقيل‏.‏

وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ‏}‏ أي‏:‏ سوء العاقبة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى‏}‏ وهو ما بعثه الله به من الهدى والنور، ‏{‏وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ‏}‏ أي‏:‏ جعلنا لهم العاقبة، وأورثناهم بلاد فرعون وأمواله وحواصله وأرضه، بما صبروا على طاعة الله واتباع رسوله موسى، عليه السلام، وفي الكتاب الذي أورثوه- وهو التوراة- ‏{‏هُدًى وَذِكْرَى لأولِي الألْبَابِ‏}‏ وهي‏:‏ العقول الصحيحة السليمة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَاصْبِرْ‏}‏ أي‏:‏ يا محمد، ‏{‏إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ وعدناك أنا سنعلي كلمتك، ونجعل العاقبة لك ولمن اتبعك، والله لا يخلف الميعاد‏.‏ وهذا الذي أخبرناك به حق لا مرية فيه ولا شك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ‏}‏ هذا تهييج للأمة على الاستغفار، ‏{‏وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ‏}‏ أي‏:‏ في أواخر النهار وأوائل الليل، ‏{‏وَالإبْكَارِ‏}‏ وهي أوائل النهار وأواخر الليل‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ‏}‏ أي‏:‏ يدفعون الحق بالباطل، ويردون الحجج الصحيحة بالشبه الفاسدة بلا برهان ولا حجة من الله، ‏{‏إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ‏}‏‏.‏

أي‏:‏ ما في صدورهم إلا كبر على اتباع الحق، واحتقار لمن جاءهم به، وليس ما يرومونه من إخمال الحق وإعلاء الباطل بحاصل لهم، بل الحق هو المرفوع، وقولهم وقصدهم هو الموضوع، ‏{‏فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ من حال مثل هؤلاء، ‏{‏إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ‏}‏ أو من شر مثل هؤلاء المجادلين في آيات الله بغير سلطان‏.‏ هذا تفسير ابن جرير‏.‏

وقال كعب وأبو العالية‏:‏ نزلت هذه الآية في اليهود‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ‏}‏ قال أبو العالية‏:‏ وذلك أنهم ادعوا أن الدجال منهم، وأنهم يملكون به الأرض‏.‏ فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم آمرا له أن يستعيذ من فتنة الدجال، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ‏}‏‏.‏

وهذا قول غريب، وفيه تعسف بعيد، وإن كان قد رواه ابن أبي حاتم في كتابه، والله أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏57- 59‏]‏

‏{‏لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ إِنَّ السَّاعَةَ لَآَتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ‏}‏‏.‏

يقول تعالى منبها على أنه يعيد الخلائق يوم القيامة، وأن ذلك سهل عليه، يسير لديه- بأنه خلق السموات والأرض، وخلقهما أكبر من خلق الناس بدأة وإعادة، فمن قدر على ذلك فهو قادر على ما دونه بطريق الأولى والأحرى، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ‏}‏ ‏[‏الاحقاف‏:‏ 33‏]‏‏.‏ وقال هاهنا‏:‏ ‏{‏لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ‏}‏؛ فلهذا لا يتدبرون هذه الحجة ولا يتأملونها، كما كان كثير من العرب يعترفون بأن الله خلق السموات والأرض، وينكرون المعاد، استبعادا وكفرا وعنادا، وقد اعترفوا بما هو أولى مما أنكروا‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏وَمَا يَسْتَوِي الأعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ‏}‏ أي كما لا يستوي الأعمى الذي لا يبصر شيئا، والبصير الذي يرى ما انتهى إليه بصره، بل بينهما فرق عظيم، كذلك لا يستوي المؤمنون الأبرار والكفرة الفجار، ‏{‏قَلِيلا مَا تَتَذَكَّرُونَ‏}‏ أي‏:‏ ما أقل ما يتذكر كثير من الناس‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ‏}‏ أي لكائنة وواقعة ‏{‏لا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ‏}‏ أي‏:‏ لا يصدقون بها، بل يكذبون بوجودها‏.‏

قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، حدثنا أشهب، حدثنا مالك، عن شيخ قديم من أهل اليمن- قدم من ثم- قال‏:‏ سمعت أن الساعة إذا دنت اشتد البلاء على الناس، واشتد حر الشمس‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏60‏]‏

‏{‏وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ‏}‏‏.‏

هذا من فضله، تبارك وتعالى، وكرمه أنه ندب عباده إلى دعائه، وتكفل لهم بالإجابة، كما كان سفيان الثوري يقول‏:‏ يا مَنْ أحبُّ عباده إليه مَنْ سأله فأكثر سؤاله، ويا من أبغض عباده إليه من لم يسأله، وليس كذلك غيرك يا رب‏.‏

رواه ابن أبي حاتم‏.‏

وفي هذا المعنى يقول الشاعر‏:‏

اللهُ يَغْضبُ إن تركْتَ سُؤَالهُ *** وَبُنيُّ آدمَ حين يُسألُ يَغْضَب

وقال قتادة‏:‏ قال كعب الأحبار‏:‏ أعطيت هذه الأمة ثلاثا لم تُعطهُن أمة قبلهم إلا نبي‏:‏ كان إذا أرسل الله نبيا قيل له‏:‏ ‏"‏أنت شاهد على أمتك‏"‏، وجَعلتُكم شهداء على الناس‏.‏ وكان يقال له‏:‏ ‏"‏ليس عليك في الدين من حرج‏"‏‏.‏ وقال لهذه الأمة‏:‏ ‏{‏وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏78‏]‏‏.‏ وكان يقال له‏:‏ ‏"‏ادعني أستجب لك ‏"‏وقال لهذه الأمة‏:‏ ‏{‏ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ‏}‏ رواه ابن أبي حاتم‏.‏

وقال الإمام الحافظ أبو يعلى أحمد بن علي بن المثنى الموصلي في مسنده‏:‏ حدثنا أبو إبراهيم الترجماني، حدثنا صالح المري قال‏:‏ سمعت الحسن يحدث عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم- فيما يروي عن ربه عز وجل- قال‏:‏ ‏"‏أربع خصال، واحدة منهن لي، وواحدة لك، وواحدة فيما بيني وبينك، وواحدة فيما بينك وبين عبادي ‏:‏ فأما التي لي فتعبدني لا تشرك بي شيئا، وأما التي لك عليَّ فما عملت من خير جزيتك به، وأما التي بيني وبينك‏:‏ فمنك الدعاء وعلي الإجابة، وأما التي بينك وبين عبادي فارض لهم ما ترضى لنفسك‏"‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن ذر، عن يُسيع الكندي، عن النعمان بن بشير، رضي الله عنه، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن الدعاء هو العبادة‏"‏ ثم قرأ‏:‏ ‏{‏ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ‏}‏‏.‏وهكذا رواه أصحاب السنن‏:‏ الترمذي، والنسائي،وابن ماجه، وابن أبي حاتم، وابن جرير، كلهم من حديث الأعمش، به‏.‏ وقال الترمذي‏:‏ حسن صحيح‏.‏

ورواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن جرير أيضا، من حديث شعبة، عن منصور، عن ذر، به ‏.‏ وأخرجه الترمذي أيضا من حديث الثوري، عن منصور والأعمش، كلاهما عن ذر، به‏.‏

ورواه ابن حبان والحاكم في صحيحيهما، وقال الحاكم‏:‏ صحيح الإسناد‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا وكيع، حدثني أبو مليح المدني- شيخ من أهل المدينة- سمعه عن أبي صالح، وقال مرة‏:‏ سمعت أبا صالح يحدث عن أبي هريرة ‏[‏رضي الله عنه‏]‏ قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من لم يدع الله، عز وجل، غضب عليه‏"‏‏.‏

تفرد به أحمد، وهذا إسناد لا بأس به‏.‏

وقال الإمام أحمد أيضا‏:‏ حدثنا مروان الفزاري، حدثنا صُبيح أبو المليح‏:‏ سمعت أبا صالح يحدث عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من لا يسأله يغضب عليه‏"‏‏.‏

قال ابن معين‏:‏ أبو المليح هذا اسمه‏:‏ صُبَيْح‏.‏ كذا قيده بالضم عبد الغني بن سعيد‏.‏ وأما أبو صالح هذا فهو الخُوزي ، سكن شِعَب الخوز ‏.‏ قاله البزار في مسنده‏.‏ وكذا وقع في روايته أبو المليح الفارسي، عن أبي صالح الخُوزي، عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من لا يسأل الله يغضب عليه‏"‏‏.‏

وقال الحافظ أبو محمد الحسن بن عبد الرحمن الرامهُرْمزي‏:‏ حدثنا همام، حدثنا إبراهيم بن الحسن، حدثنا نائل بن نجيح، حدثني عائذ بن حبيب، عن محمد بن سعيد قال‏:‏ لما مات محمد بن مسلمة الأنصاري، وجدنا في ذؤابة سيفه كتابا‏:‏ ‏"‏بسم الله الرحمن الرحيم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏إن لربكم في بقية دهركم نفحات ، فتعرضوا له، لعل دعوة أن توافق رحمة فيسعد بها صاحبها سعادة لا يخسر بعدها أبدا‏"‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي‏}‏ أي‏:‏ عن دعائي وتوحيدي، ‏{‏سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ‏}‏ أي‏:‏ صاغرين حقيرين، كما قال الإمام أحمد‏:‏

حدثنا يحيى بن سعيد، عن ابن عجلان، حدثني عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏يُحْشَر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذّرّ، في صور الناس، يعلوهم كل شيء من الصغار حتى يدخلوا سجنا في جهنم- يقال له‏:‏ بولس- تعلوهم نار الأنيار، يسقون من طينة الخبال‏:‏ عصارة أهل النار‏"‏‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا علي بن الحسين، حدثنا أبو بكر بن محمد بن يزيد بن خُنَيْس‏:‏ سمعت أبي يحدث عن وُهَيب بن الورد‏:‏ حدثني رجل قال‏:‏ كنت أسير ذات يوم في أرض الروم، فسمعت هاتفا من فوق رأس جبل وهو يقول‏:‏ يا رب، عجبت لمن عرفك كيف يرجو أحدا غيرك‏!‏ يا رب، عجبت لمن عرفك كيف يطلب حوائجه إلى أحد غيرك- قال‏:‏ ثم ذهبت، ثم جاءت الطامة الكبرى- قال‏:‏ ثم عاد الثانية فقال‏:‏ يا رب، عجبت لمن عرفك كيف يتعرض لشيء من سخطك يُرضي غيرك‏.‏ قال وهيب‏:‏ وهذه الطامة الكبرى‏.‏ قال‏:‏ فناديته‏:‏ أجني أنت أم إنسي‏؟‏ قال‏:‏ بل إنسي، أشغل نفسك بما يَعْنيك عما لا يعنيك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏61- 65‏]‏

‏{‏اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏‏.‏

يقول تعالى ممتنا على خلقه، بما جعل لهم من الليل الذي يسكنون فيه ويستريحون من حركات ترددهم في المعايش بالنهار، وجعل النهار مبصرا، أي‏:‏ مضيئا، ليتصرفوا فيه بالأسفار، وقطع الأقطار، والتمكن من الصناعات، ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ‏}‏ أي‏:‏ لا يقومون بشكر نعم الله عليهم‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلَهَ إِلا هُوَ‏}‏ أي‏:‏ الذي فعل هذه الأشياء هو الله الواحد الأحد، خالق الأشياء، الذي لا إله غيره، ولا رب سواه، ‏{‏فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ‏}‏ أي‏:‏ فكيف تعبدون غيره من الأصنام، التي لا تخلق شيئا، بل هي مخلوقة منحوتة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ‏}‏ أي‏:‏ كما ضل هؤلاء بعبادة غير الله، كذلك أفك الذين من قبلهم، فعبدوا غيره بلا دليل ولا برهان بل بمجرد الجهل والهوى، وجحدوا حجج الله وآياته‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ قَرَارًا‏}‏ أي‏:‏ جعلها مستقرا لكم، بساطا مهادا تعيشون عليها، وتتصرفون فيها، وتمشون في مناكبها، وأرساها بالجبال لئلا تميد بكم، ‏{‏وَالسَّمَاءَ بِنَاءً‏}‏ أي‏:‏ سقفا للعالم محفوظا، ‏{‏وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ‏}‏ أي‏:‏ فخلقكم في أحسن الأشكال، ومنحكم أكمل الصور في أحسن تقويم، ‏{‏وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ‏}‏ أي‏:‏ من المآكل والمشارب في الدنيا‏.‏ فذكر أنه خلق الدار، والسكان، والأرزاق- فهو الخالق الرازق، كما قال في سورة البقرة‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‏.‏ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 21، 20‏]‏ وقال هاهنا بعد خلق هذه الأشياء‏:‏ ‏{‏ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ‏}‏ أي‏:‏ فتعالى وتقدس وتنزه رب العالمين كلهم‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ‏}‏ أي‏:‏ هو الحي أزلا وأبدًا، لم يزل ولا يزال، وهو الأول والآخر، والظاهر والباطن، ‏{‏لا إِلَهَ إِلا هُوَ‏}‏ أي‏:‏ لا نظير له ولا عديل له، ‏{‏فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ‏}‏ أي‏:‏ موحدين له مقرين بأنه لا إله إلا هو ‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ كان جماعة من أهل العلم يأمرون من قال‏:‏ ‏"‏لا إله إلا الله‏"‏ أن يتبعها بالحمد لله رب العالمين، عملا بهذه الآية‏.‏

ثم روى عن محمد بن علي بن الحسن بن شقيق، عن أبيه، عن الحسين بن واقد، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس قال‏:‏ من قال‏:‏ ‏"‏لا إله إلا الله‏"‏ فليقل على أثرها‏:‏ ‏"‏الحمد لله رب العالمين‏"‏ فذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏‏.‏

وقال أبو أسامة وغيره، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن سعيد بن جبير قال‏:‏ إذا قرأت‏:‏ ‏{‏فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 14‏]‏، فقل‏:‏ ‏"‏لا إله إلا الله‏"‏ وقل على أثرها‏:‏ ‏"‏الحمد لله رب العالمين‏"‏ ثم قرأ هذه الآية‏:‏ ‏{‏فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏66- 68‏]‏

‏{‏قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏‏.‏

يقول تعالى‏:‏ قل يا محمد لهؤلاء المشركين‏:‏ إن الله ينهى أن يُعْبَد أحد سواه من الأصنام والأنداد والأوثان‏.‏ وقد بين تعالى أنه لا يستحق العبادة أحد سواه، في قوله‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا‏}‏ أي‏:‏ هو الذي يقلبكم في هذه الأطوار كلها، وحده لا شريك له، وعن أمره وتدبيره وتقديره يكون ذلك كله، ‏{‏وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ‏}‏ أي‏:‏ من قبل أن يوجد ويخرج إلى هذا العالم، بل تسقطه أمه سقطا، ومنهم من يتوفى صغيرا، وشابا، وكهلا قبل الشيخوخة، كقوله‏:‏ ‏{‏لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏ 5‏]‏ وقال هاهنا‏:‏ ‏{‏وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏ قال ابن جريج، تتذكرون البعث‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ‏}‏ أي‏:‏ هو المتفرد بذلك، لا يقدر على ذلك أحد سواه، ‏{‏فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ أي‏:‏ لا يخالف ولا يمانع، بل ما شاء كان ‏[‏لا محالة‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏69- 76‏]‏

‏{‏أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آَيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ‏}‏‏.‏

يقول تعالى‏:‏ ألا تعجب يا محمد من هؤلاء المكذبين بآيات الله، ويجادلون في الحق والباطل، كيف تُصرّف عقولهم عن الهدى إلى الضلال، ‏{‏الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا‏}‏ أي‏:‏ من الهدى والبيان، ‏{‏فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ‏}‏ هذا تهديد شديد، ووعيد أكيد، من الرب، جل جلاله، لهؤلاء، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ‏}‏ ‏[‏المرسلات‏:‏ 15‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏إِذِ الأغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ‏}‏ أي‏:‏ متصلة بالأغلال، بأيدي الزبانية يسحبونهم على وجوههم، تارة إلى الحميم وتارة إلى الجحيم؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏يُسْحَبُونَ‏.‏ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ‏}‏، كما قال‏:‏ ‏{‏هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 43، 44‏]‏‏.‏ وقال بعد ذكْره أكلهم الزقوم وشربهم الحميم‏:‏ ‏{‏ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإلَى الْجَحِيمِ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏68‏]‏ وقال ‏{‏وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ‏.‏ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ‏.‏ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ‏.‏ لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ‏}‏ إلى أن قال‏:‏ ‏{‏ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ‏.‏ لآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ‏.‏ فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ‏.‏ فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ‏.‏ فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ‏.‏ هَذَا نزلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 41- 56‏]‏‏.‏ وقال ‏{‏إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ‏.‏ طَعَامُ الأثِيمِ‏.‏ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ‏.‏ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ‏.‏ خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ‏.‏ ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ‏.‏ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ‏.‏ إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 43- 50‏]‏، أي‏:‏ يقال لهم ذلك على وجه التقريع والتوبيخ، والتحقير والتصغير، والتهكم والاستهزاء بهم‏.‏

قال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا علي بن الحسين، حدثنا أحمد بن منيع، حدثنا منصور بن عمار، حدثنا بشير بن طلحة الخزامي، عن خالد بن دُرَيْك، عن يعلى بن مُنْيَه- رفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال‏:‏ ‏"‏ينشئ الله سحابة لأهل النار سوداء مظلمة، ويقال‏:‏ يا أهل النار، أي شيء تطلبون‏؟‏ فيذكرون بها سحاب الدنيا فيقولون‏:‏ نسأل بَرْد الشراب، فتمطرهم أغلالا تزيد في أغلالهم، وسلاسل تزيد في سلاسلهم، وجمرا يُلْهِبُ النار عليهم‏"‏‏.‏ هذا حديث غريب‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ‏.‏ مِنْ دُونِ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ قيل لهم‏:‏ أين الأصنام التي كنتم تعبدونها من دون الله‏؟‏ هل ينصرونكم اليوم‏؟‏ ‏{‏قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا‏}‏ أي‏:‏ ذهبوا فلم ينفعونا، ‏{‏بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا‏}‏ أي‏:‏ جحدوا عبادتهم، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏الانعام‏:‏ 23‏]‏؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ‏}‏ أي‏:‏ تقول لهم الملائكة‏:‏ هذا الذي أنتم فيه جزاء على فرحكم في الدنيا بغير الحق، ومرحكم وأشركم وبطركم، ‏{‏ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ‏}‏ أي‏:‏ فبئس المْنزلُ والمَقِيلُ الذي فيه الهوان والعذاب الشديد، لمن استكبر عن آيات الله، واتباع دلائله وحُججه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏77- 78‏]‏

‏{‏فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ‏}‏‏.‏

يقول تعالى آمرا رسوله، صلوات الله وسلامه عليه، بالصبر على تكذيب من كذبه من قومه؛ فإن الله سينجز لك ما وعدك من النصر والظفر على قومك، وجعل العاقبة لك ولمن اتبعك في الدنيا والآخرة، ‏{‏فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ‏}‏ أي‏:‏ في الدنيا‏.‏ وكذلك وقع، فإن الله أقر أعينهم من كبرائهم وعظمائهم، أبيدوا في يوم بدر‏.‏ ثم فتح الله عليه مكة وسائر جزيرة العرب في أيام حياته صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ‏}‏ أي‏:‏ فنذيقهم العذاب الشديد في الآخرة‏.‏

ثم قال مسليا له‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ‏}‏ كما قال في ‏"‏سورة النساء‏"‏ سواء، أي‏:‏ منهم من أوحينا إليك خبرهم وقصصهم مع قومهم كيف كذبوهم ثم كانت للرسل العاقبة والنصرة، ‏{‏وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ‏}‏ وهم أكثر ممن ذكر بأضعاف أضعاف، كما تقدم التنبيه على ذلك في سورة النساء، ولله الحمد والمنة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ‏}‏ أي‏:‏ ولم يكن لواحد من الرسل أن يأتي قومه بخارق للعادات، إلا أن يأذن الله له في ذلك، فيدل ذلك على صدقه فيما جاءهم به، ‏{‏فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ‏}‏ وهو عذابه ونكاله المحيط بالمكذبين ‏{‏قُضِيَ بِالْحَقِّ‏}‏ فينجو المؤمنون، ويهلك الكافرون؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏79- 85‏]‏

‏{‏اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَأَيَّ آَيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآَثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آَمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ‏}‏‏.‏

يقول تعالى ممتنا على عباده، بما خلق لهم من الأنعام، وهي الإبل والبقر والغنم ‏{‏فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 72‏]‏، فالإبل تركب وتؤكل وتحلب، ويحمل عليها الأثقال في الأسفار والرحال إلى البلاد النائية، والأقطار الشاسعة‏.‏ والبقر تؤكل، ويشرب لبنها، وتحرث عليها الأرض‏.‏ والغنم تؤكل، ويشرب لبنها، والجميع تجز أصوافها وأشعارها وأوبارها، فيتخذ منها الأثاث والثياب والأمتعة كما فَصَّل وبَيَّنَ في أماكن تقدم ذكرها في ‏"‏سورة الأنعام‏"‏ ، و‏"‏سورة النحل‏"‏، وغير ذلك؛ ولهذا قال هاهنا‏:‏ ‏{‏لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ‏.‏ وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ‏}‏ أي‏:‏ حججه وبراهينه في الآفاق وفي أنفسكم، ‏{‏فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ‏}‏ أي‏:‏ لا تقدرون على إنكار شيء من آياته، إلا أن تعاندوا وتكابروا‏.‏

‏{‏أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ‏}‏‏.‏

يخبر تعالى عن الأمم المكذبة بالرسل في قديم الدهر، وماذا حل بهم من العذاب الشديد، مع شدة قواهم، وما أَثّروه في الأرض، وجمعوه من الأموال، فما أغنى عنهم ذلك شيئا، ولا رد عنهم ذرة من بأس الله؛ وذلك لأنهم لما جاءتهم الرسل بالبينات، والحجج القاطعات، والبراهين الدامغات، لم يلتفتوا إليهم، ولا أقبلوا عليهم، واستغنوا بما عندهم من العلم في زعمهم عما جاءتهم به الرسل‏.‏

قال مجاهد‏:‏ قالوا‏:‏ نحن أعلم منهم لن نبعث ولن نعذب‏.‏

وقال السدي‏:‏ فرحوا بما عندهم من العلم بجهالتهم، فأتاهم من بأس الله ما لا قِبَل لهم به‏.‏

‏{‏وَحَاقَ بِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ أحاط بهم ‏{‏مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ‏}‏ أي‏:‏ يكذبون ويستبعدون وقوعه‏.‏

‏{‏فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا‏}‏ أي‏:‏ عاينوا وقوع العذاب بهم، ‏{‏قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ‏}‏ أي‏:‏ وحدوا الله وكفروا بالطاغوت، ولكن حيث لا تُقَال العثرات، ولا تنفع المعذرة‏.‏ وهذا كما قال فرعون حين أدركه الغرق‏:‏ ‏{‏آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 90‏]‏، قال الله ‏[‏تبارك و‏]‏ تعالى‏:‏ ‏{‏آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 91‏]‏ أي‏:‏ فلم يقبل الله منه؛ لأنه قد استجاب لنبيه موسى دعاءه عليه حين قال‏:‏ ‏{‏وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏88‏]‏‏.‏ و‏[‏هكذا‏]‏ هاهنا قال‏:‏ ‏{‏فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ‏}‏ أي‏:‏ هذا حكم الله في جميع مَنْ تاب عند معاينة العذاب‏:‏ أنه لا يقبل؛ ولهذا جاء في الحديث‏:‏ ‏"‏إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر‏"‏ أي‏:‏ فإذا غرغر وبلغت الروح الحنجرة، وعاين الملك، فلا توبة حينئذ؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ‏}‏‏.‏

آخر تفسير ‏"‏سورة غافر، ولله الحمد والمنة‏.‏

تفسير سورة فصلت

وهي مكية‏.‏

بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ‏}‏‏.‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏حم تَنزيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ‏}‏ يعني‏:‏ القرآن منزل من الرحمن الرحيم، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ نزلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 102‏]‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وَإِنَّهُ لَتَنزيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نزلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 192- 194‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ‏}‏ أي‏:‏ بُينت معانيه وأحكمت أحكامه، ‏{‏قُرْآنًا عَرَبِيًّا‏}‏ أي‏:‏ في حال كونه لفظا عربيا، بينا واضحا، فمعانيه مفصلة، وألفاظه واضحة غير مشكلة، كقوله‏:‏ ‏{‏كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 1‏]‏ أي‏:‏ هو معجز من حيث لفظه ومعناه، ‏{‏لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 42‏]‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ‏}‏ أي‏:‏ إنما يعرف هذا البيان والوضوح العلماءُ الراسخون، ‏{‏بَشِيرًا وَنَذِيرًا‏}‏ أي‏:‏ تارة يبشر المؤمنين، وتارة ينذر الكافرين، ‏{‏فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ‏}‏ أي‏:‏ أكثر قريش، فهم لا يفهمون منه شيئا مع بيانه ووضوحه‏.‏

‏{‏وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ‏}‏ أي‏:‏ في غلف مغطاة ‏{‏مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ‏}‏ أي‏:‏ صمم عما جئتنا به، ‏{‏وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ‏}‏ فلا يصل إلينا شيء مما تقول، ‏{‏فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ‏}‏ أي‏:‏ اعمل أنت على طريقتك، ونحن على طريقتنا لا نتابعك‏.‏

قال الإمام العَلَم عبد بن حُمَيد في مسنده‏:‏ حدثني ابن أبي شيبة، حدثنا علي بن مُسْهِر عن الأجلح، عن الذَّيَّال بن حَرْمَلة الأسدي عن جابر بن عبد الله، رضي الله عنه، قال‏:‏ اجتمعت قريش يوما فقالوا‏:‏ انظروا أعْلَمكم بالسحر والكهانة والشعر، فليأت هذا الرجل الذي قد فرق جماعتنا، وشتت أمرنا، وعاب ديننا، فليكلمه ولننظر ماذا يرد عليه‏؟‏ فقالوا‏:‏ ما نعلم أحدا غير عتبة ابن ربيعة‏.‏ فقالوا‏:‏ أنت يا أبا الوليد‏.‏ فأتاه عتبة فقال‏:‏ يا محمد، أنت خير أم عبد الله‏؟‏ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ أنت خير أم عبد المطلب‏؟‏ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ فإن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك، فقد عبدوا الآلهة التي عِبْتَ، وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى نسمع قولك، إنا والله ما رأينا سَخْلةً قط أشأم على قومك منك؛ فرقت جماعتنا، وشتت أمرنا، وعبت ديننا، وفضحتنا في العرب، حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحرا، وأن في قريش كاهنا‏!‏ والله ما ننظر إلا مثل صيحة الحُبْلى أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف، حتى نتفانى‏!‏ أيها الرجل، إن كان إنما بك الحاجة جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلا وإن كان إنما بك الباءة فاختر أي نساء قريش ‏[‏شئت‏]‏ فلنزوجك عشرا‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏فَرَغْتَ‏؟‏‏"‏ قال‏:‏ نعم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏{‏بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏ حم‏.‏ تَنزيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ‏}‏ حتى بلغ‏:‏ ‏{‏فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ‏}‏ فقال عتبة‏:‏ حسبك‏!‏ حسبك‏!‏ ما عندك غير هذا‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏لا‏"‏ فرجع إلى قريش فقالوا‏:‏ ما وراءك‏؟‏ قال‏:‏ ما تركت شيئا أرى أنكم تكلمونه به إلا كلمته‏.‏ قالوا‏:‏ فهل أجابك‏؟‏ ‏[‏قال‏:‏ نعم، قالوا‏:‏ فما قال‏؟‏‏]‏ قال‏:‏ لا والذي نصبها بَنيَّةً ما فَهِمْتُ شيئا مما قال، غير أنه أنذركم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود‏.‏ قالوا‏:‏ ويلك‏!‏ يكلمك الرجل بالعربية ما تدري ما قال‏؟‏‏!‏ قال‏:‏ لا والله ما فهمت شيئا مما قال غير ذكر الصاعقة‏.‏

وهكذا رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي في مسنده عن أبي بكر بن أبي شيبة بإسناده، مثله سواء‏.‏

وقد ساقه البغوي في تفسيره بسنده عن محمد بن فُضَيل، عن الأجلح- وهو ابن عبد الله الكندي ‏[‏الكوفي‏]‏ - وقد ضُعِّفَ بعض الشيء عن الذّيَّال بن حرملة، عن جابر، فذكر الحديث إلى قوله‏:‏ ‏{‏فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ‏}‏ فأمسك عتبة على فيه، وناشده بالرحم، ورجع إلى أهله ولم يخرج إلى قريش واحتبس عنهم‏.‏ فقال أبو جهل‏:‏ يا معشر قريش، والله ما نرى عتبة إلا قد صَبَا إلى محمد، وأعجبه طعامه، وما ذاك إلا من حاجة ‏[‏قد‏]‏ أصابته، فانطلقوا بنا إليه‏.‏ فانطلقوا إليه فقال أبو جهل‏:‏ يا عتبة، ما حبسك عنا إلا أنك صبوت إلى محمد وأعجبك طعامه، فإن كانت لك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد‏.‏ فغضب عتبة، وأقسم ألا يكلم محمدا أبدا، وقال‏:‏ والله، لقد علمتم أني من أكثر قريش مالا ولكني أتيته وقصصت عليه ‏[‏القصة‏]‏ فأجابني بشيء والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر، وقرأ السورة إلى قوله‏:‏ ‏{‏فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ‏}‏ فأمسكت بفيه، وناشدته بالرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب، فخشيت أن ينزل بكم العذاب‏.‏

وهذا السياق أشبه من سياق البزار وأبي يعلى، والله أعلم‏.‏

وقد أورد هذه القصة الإمام محمد بن إسحاق بن يسار في كتاب السيرة على خلاف هذا النمط، فقال‏:‏حدثني يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب القُرَظي قال‏:‏ حُدِّثْتُ أن عتبة بن ربيعة- وكان سيدا- قال يوما وهو جالس في نادي قريش، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده‏:‏ يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورا لعله يقبل بعضها، فنعطيه أيَّها شاء ويكف عنا‏؟‏ وذلك حين أسلم حمزة، ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون، فقالوا‏:‏ بلى يا أبا الوليد، فقم إليه فكلمه ‏.‏فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من السِّطَة في العشيرة، والمكان في النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفرت به من مضى من آبائهم، فاسمع مني أعرض عليك أمورا تنظر فيها لعلك تقبل منا بعضها‏.‏ قال‏:‏ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏قل يا أبا الوليد، أسمع‏"‏‏.‏ قال‏:‏ يا ابن أخي، إن كنت إنما تريدُ بما جئتَ به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون من أكثرنا أموالا ‏.‏ وإن كنت تريد به شرفا سودناك علينا، حتى لا نقطع أمرًا دونك‏.‏ وإن كنت تريد به ملكا ملكناك علينا‏.‏ وإن كان هذا الذي يأتيك رَئِيّا تراه لا تستطيع رده عن نفسك، طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يُدَاوَى منه- أو كما قال له- حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه قال‏:‏ ‏"‏أفرغت يا أبا الوليد‏؟‏‏"‏ قال‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏فاستمع مني‏"‏ قال‏:‏ أفعل‏.‏ قال‏:‏ ‏{‏بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏ حم‏.‏ تَنزيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ‏.‏ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ‏.‏ بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ‏}‏ ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها يقرؤها عليه‏.‏ فلما سمع عتبة أنصت لها وألقى يديه خلف ظهره معتمدا عليهما يسمع منه، ثم انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها، فسجد ثم قال‏:‏ ‏"‏قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك فقام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض‏:‏ أقسم- يحلف بالله- لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به‏.‏ فلما جلس إليهم قالوا‏:‏ ما وراءك يا أبا الوليد‏؟‏ قال‏:‏ ورائي أني قد سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالسحر ولا بالشعر ولا بالكهانة‏.‏ يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها لي، خلوا بين الرجل وبين ما هو فيه فاعتزلوه، فوالله ليكونَنَّ لقوله الذي سمعت نبأ، فإن تصبه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فمُلْكُهُ ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به‏.‏ قالوا‏:‏ سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه‏!‏ قال‏:‏ هذا رأيي فيه، فاصنعوا ما بدا لكم‏.‏

وهذا السياق أشبه من الذي قبله، والله أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 8‏]‏

‏{‏قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ‏}‏‏.‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ‏}‏ يا محمد لهؤلاء المكذبين المشركين‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ‏}‏ لا كما تعبدونه من الأصنام والأنداد والأرباب المتفرقين، إنما الله إله واحد، ‏{‏فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ‏}‏ أي‏:‏ أخلصوا له العبادة على منوال ما أمركم به على ألسنة الرسل، ‏{‏وَاسْتَغْفِرُوهُ‏}‏ أي‏:‏ لسالف الذنوب، ‏{‏وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ‏}‏ أي‏:‏ دمار لهم وهلاك عليهم،

‏{‏الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ‏}‏ قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس‏:‏ يعني‏:‏ الذين لا يشهدون أن لا إله إلا الله‏.‏ وكذا قال عكرمة‏.‏

وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا‏}‏ ‏[‏الشمس‏:‏ 9، 10‏]‏، وكقوله‏:‏ ‏{‏قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 14، 15‏]‏، وقوله ‏{‏فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 18‏]‏ والمراد بالزكاة هاهنا‏:‏ طهارة النفس من الأخلاق الرذيلة، ومن أهم ذلك طهارة النفس من الشرك‏.‏ وزكاة المال إنما سميت زكاة لأنها تطهره من الحرام، وتكون سببا لزيادته وبركته وكثرة نفعه، وتوفيقا إلى استعماله في الطاعات‏.‏

وقال السدي‏:‏ ‏{‏وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ‏}‏ أي‏:‏ لا يَدِينون بالزكاة‏.‏

وقال معاوية بن قرة‏:‏ ليس هم من أهل الزكاة‏.‏

وقال قتادة‏:‏ يمنعون زكاة أموالهم‏.‏

وهذا هو الظاهر عند كثير من المفسرين، واختاره ابن جرير‏.‏ وفيه نظر؛ لأن إيجاب الزكاة إنما كان في السنة الثانية من الهجرة إلى المدينة، على ما ذكره غير واحد وهذه الآية مكية، اللهم إلا أن يقال‏:‏ لا يبعد أن يكون أصل الزكاة الصدقة كان مأمورا به في ابتداء البعثة، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 141‏]‏، فأما الزكاة ذات النصب والمقادير فإنما بَيَّن أمرها بالمدينة، ويكون هذا جمعا بين القولين، كما أن أصل الصلاة كان واجبا قبل طلوع الشمس وقبل غروبها في ابتداء البعثة، فلما كان ليلة الإسراء قبل الهجرة بسنة ونصف، فرض الله على رسوله ‏[‏صلى الله عليه وسلم‏]‏ الصلوات الخمس، وفصل شروطها وأركانها وما يتعلق بها بعد ذلك، شيئا فشيئا، والله أعلم‏.‏

ثم قال بعد ذلك‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ‏}‏ قال مجاهد وغيره‏:‏ لا مقطوع ولا مجبوب، كقوله‏:‏ ‏{‏مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 3‏]‏، وكقوله تعالى ‏{‏عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 108‏]‏‏.‏

وقال السدي‏:‏ غير ممنون عليهم‏.‏ وقد رد عليه بعض الأئمة هذا التفسير، فإن المنة لله على أهل الجنة؛ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإيمَانِ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 17‏]‏، وقال أهل الجنة‏:‏ ‏{‏فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 27‏]‏، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 12‏]‏

‏{‏قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ‏}‏‏.‏

هذا إنكار من الله على المشركين الذين عبدوا معه غيره، وهو الخالق لكل شيء، القاهر لكل شيء، المقدر لكل شيء، فقال‏:‏ ‏{‏قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا‏}‏ أي‏:‏ نظراء وأمثالا تعبدونها معه ‏{‏ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ‏}‏ أي‏:‏ الخالق للأشياء هو رب العالمين كلهم‏.‏

وهذا المكان فيه تفصيل لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 54‏]‏، ففصل هاهنا ما يختص بالأرض مما اختص بالسماء، فذكر أنه خلق الأرض أولا لأنها كالأساس، والأصل أن يُبْدَأَ بالأساس، ثم بعده بالسقف، كما قال‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ‏}‏ الآية ‏[‏البقرة‏:‏ 29‏]‏،‏.‏

فأما قوله‏:‏ ‏{‏أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعًا لَكُمْ وَلأنْعَامِكُمْ‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 27- 33‏]‏ ففي هذه الآية أن دَحْى الأرض كان بعد خلق السماء، فالدَّحْيُ هو مفسر بقوله‏:‏ ‏{‏أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا‏}‏، وكان هذا بعد خلق السماء، فأما خلق الأرض فقبل خلق السماء بالنص، وبهذا أجاب ابن عباس فيما ذكره البخاري عند تفسير هذه الآية من صحيحه، فإنه قال‏:‏

وقال المنهال، عن سعيد بن جبير قال‏:‏ قال رجل لابن عباس‏:‏ إني أجد في القرآن أشياء تختلف عليّ قال‏:‏ ‏{‏فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 101‏]‏، ‏{‏وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 27‏]‏، ‏{‏وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 42‏]‏، ‏{‏وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 23‏]‏، فقد كتموا في هذه الآية‏؟‏ وقال‏:‏ ‏{‏أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏دَحَاهَا‏}‏ ‏[‏النازعات‏:‏ 27- 30‏]‏، فذكر خلق السماء قبل ‏[‏خلق‏]‏ الأرض ثم قال‏:‏ ‏{‏قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏طَائِعِينَ‏}‏ فذكر في هذه خلق الأرض قبل خلق السماء‏؟‏ وقال‏:‏ ‏{‏وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 96‏]‏، ‏{‏عَزِيزًا حَكِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 56‏]‏، ‏{‏سَمِيعًا بَصِيرًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 58‏]‏، فكأنه كان ثم مضى‏.‏

قال- يعني ابن عباس- ‏:‏ ‏{‏فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ‏}‏ في النفخة الأولى، ثم ينفخ في الصور، ‏{‏فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 68‏]‏، فلا أنساب بينهم عندذلك ولا يتساءلون، ثم في النفخة الأخرى ‏{‏وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ‏}‏‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏{‏مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ‏}‏ ‏{‏وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا‏}‏، فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم فقال المشركون‏:‏ تعالوا نقول‏:‏ ‏"‏لم نكن مشركين‏"‏، فيختم على أفواههم، فتنطق أيديهم، فعند ذلك يعرف أن الله لا يكتم حديثا، وعنده ‏{‏يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ الآية ‏[‏الحجر‏:‏ 2‏]‏‏.‏

وخلق الأرض في يومين، ثم خلق السماء، ثم استوى إلى السماء، فسواهن في يومين آخرين، ثم دَحَى الأرض، ودَحْيُها‏:‏ أن أخرج منها الماء والمرعى، وخلق الجبال والجماد والآكام وما بينهما في يومين آخرين، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏دَحَاهَا‏}‏ وقوله ‏{‏خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ‏}‏ فَخُلِقت الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام، وخلقت السماوات في يومين‏.‏

‏{‏وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 96‏]‏، سمى نفسه بذلك، وذلك قوله، أي‏:‏ لم يزل كذلك؛ فإن الله لم يرد شيئا إلا أصاب به الذي أراد، فلا يختلفن عليك القرآن، فإن كلا من عند الله عز وجل‏.‏

قال البخاري‏:‏ حدثنيه يوسف بن عدي، حدثنا عبيد الله بن عمرو، عن زيد بن أبي أُنَيْسَة ، عن المنهال- هو ابن عمرو- بالحديث‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ‏}‏ يعني‏:‏ يوم الأحد ويوم الاثنين‏.‏

‏{‏وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا‏}‏ أي‏:‏ جعلها مباركة قابلة للخير والبذر والغراس، ‏{‏وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا‏}‏، وهو‏:‏ ما يحتاج أهلها إليه من الأرزاق والأماكن التي تزرع وتغرس، يعني‏:‏ يوم الثلاثاء والأربعاء، فهما مع اليومين السابقين أربعة؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ‏}‏ أي‏:‏ لمن أراد السؤال عن ذلك ليعلمه‏.‏

وقال مجاهد وعكرمة في قوله‏:‏ ‏{‏وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا‏}‏ جعل في كل أرض ما لا يصلح في غيرها، ومنه‏:‏ العصب باليمن، والسابري بسابور والطيالسة بالرّي‏.‏

وقال ابن عباس، وقتادة، والسدي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ‏}‏ أي‏:‏ لمن أراد السؤال عن ذلك‏.‏

وقال ابن زيد‏:‏ معناه ‏{‏وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ‏}‏ أي‏:‏ على وفق مراد من له حاجة إلى رزق أو حاجة، فإن الله قدر له ما هو محتاج إليه‏.‏

وهذا القول يشبه ما ذكروه في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 34‏]‏، والله أعلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ‏}‏، وهو‏:‏ بخار الماء المتصاعد منه حين خلقت الأرض،‏{‏فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا‏}‏ أي‏:‏ استجيبا لأمري، وانفعلا لفعلي طائعتين أو مكرهتين‏.‏

قال الثوري، عن ابن جريج، عن سليمان بن موسى، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله ‏[‏تعالى‏]‏ ‏{‏فَقَالَ لَهَا وَلِلأرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا‏}‏ قال‏:‏ قال الله تعالى للسموات‏:‏ أطلعي شمسي وقمري ونجومي‏.‏ وقال للأرض‏:‏ شققي أنهارك، وأخرجي ثمارك‏.‏ فقالتا‏:‏ ‏{‏أَتَيْنَا طَائِعِينَ‏}‏‏.‏

واختاره ابن جرير- رحمه الله‏.‏

‏{‏قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ‏}‏ أي‏:‏ بل نستجيب لك مطيعين بما فينا، مما تريد خلقه من الملائكة والإنس والجن جميعا مطيعين لك‏.‏ حكاه ابن جرير عن بعض أهل العربية قال‏:‏ وقيل‏:‏ تنزيلا لهن معاملة من يعقل بكلامهما‏.‏

وقيل إن المتكلم من الأرض بذلك هو مكان الكعبة، ومن السماء ما يسامته منها، والله أعلم‏.‏

وقال الحسن البصري‏:‏ لو أبيا عليه أمره لعذبهما عذابا يجدان ألمه‏.‏ رواه ابن أبي حاتم‏.‏

‏{‏فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ‏}‏ أي‏:‏ ففرغ من تسويتهن سبع سموات في يومين، أي‏:‏ آخرين، وهما يوم الخميس ويوم الجمعة‏.‏

‏{‏وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا‏}‏ أي‏:‏ ورتب مقررا في كل سماء ما تحتاج إليه من الملائكة، وما فيها من الأشياء التي لا يعلمها إلا هو، ‏{‏وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ‏}‏ وهن الكواكب المنيرة المشرقة على أهل الأرض، ‏{‏وَحِفْظًا‏}‏ أي‏:‏ حرسا من الشياطين أن تستمع إلى الملأ الأعلى‏.‏

‏{‏ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ‏}‏ أي‏:‏ العزيز الذي قد عز كل شيء فغلبه وقهره، العليم بجميع حركات المخلوقات وسكناتهم‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ حدثنا هَنَّاد بن السري، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي سعيد البقال، عن عكرمة، عن ابن عباس- قال هناد‏:‏ قرأت سائر الحديث- أن اليهود أتت النبي صلى الله عليه وسلم فسألته عن خلق السماوات والأرض، فقال‏:‏ ‏"‏خلق الله الأرض يوم الأحد ويوم الاثنين، وخلق الجبال يوم الثلاثاء وما فيهن من منافع، وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء والمدائن والعمران والخراب، فهذه أربعة‏:‏ ‏{‏قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ‏}‏ لمن سأل، قال‏:‏ ‏"‏وخلق يوم الخميس السماء، وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة إلى ثلاث ساعات بقيت منه، فخلق في أول ساعة من هذه الثلاثة الآجال، حين يموت من مات، وفي الثانية ألقى الآفة على كل شيء مما ينتفع به الناس، وفي الثالثة آدم، وأسكنه الجنة، وأمر إبليس بالسجود له، وأخرجه منها في آخر ساعة‏"‏‏.‏ ثم قالت اليهود‏:‏ ثم ماذا يا محمد‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ثم استوى على العرش‏"‏‏.‏ قالوا‏:‏ قد أصبت لو أتممت‏!‏ قالوا‏:‏ ثم استراح‏.‏ فغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضبا شديدا، فنزل‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ‏.‏فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 38‏]‏‏.‏

هذا الحديث فيه غرابة‏.‏ فأما حديث ابن جريج، عن إسماعيل بن أمية، عن أيوب بن خالد، عن عبد الله بن رافع، عن أبي هريرة قال‏:‏ أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال‏:‏ ‏"‏خلق الله التربة يوم السبت، وخلق فيها الجبال يوم الأحد، وخلق الشجر يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبث فيها الدواب يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل‏"‏ فقد رواه مسلم، والنسائي في كتابيهما، عن حديث ابن جريج، به ‏.‏ وهو من غرائب الصحيح، وقد عَلَّله البخاري في التاريخ فقال‏:‏ رواه بعضهم عن أبي هريرة ‏[‏رضي الله عنه‏]‏ عن كعب الأحبار، وهو الأصح‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 18‏]‏

‏{‏فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ‏}‏‏.‏

يقول تعالى‏:‏ قل يا محمد لهؤلاء المشركين المكذبين بما جئتهم به من الحق‏:‏ إن أعرضتم عما جئتكم به من عند الله فإني أنذركم حلول نقمة الله بكم، كما حلت بالأمم الماضين من المكذبين بالمرسلين ‏{‏صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ‏}‏ أي‏:‏ ومن شاكلهما ممن فعل كفعلهما‏.‏

‏{‏إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 21‏]‏، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 21‏]‏ أي‏:‏ في القرى المجاورة لبلادهم، بعث الله إليهم الرسليأمرون بعبادة الله وحده لا شريك له، ومبشرين ومنذرين ورأوا ما أحل الله بأعدائه من النقم، وما ألبس أولياءه من النعم، ومع هذا ما آمنوا ولا صدقوا، بل كذبوا وجحدوا، وقالوا‏:‏ ‏{‏لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لأنزلَ مَلائِكَةً‏}‏ أي‏:‏ لو أرسل الله رسلا لكانوا ملائكة من عنده، ‏{‏فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ‏}‏ أي‏:‏ أيها البشر ‏{‏كَافِرُونَ‏}‏ أي‏:‏ لا نتبعكم وأنتم بشر مثلنا‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبرَوُا فِي الأرْضِ ‏[‏بِغَيْرِ الحَقٍّ‏]‏‏}‏ أي‏:‏ بغوا وعتوا وعصوا، ‏{‏وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً‏}‏ أي‏:‏ منوا بشدة تركيبهم وقواهم، واعتقدوا أنهم يمتنعون به من بأس الله‏!‏ ‏{‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً‏}‏ أي‏:‏ أفما يتفكرون فيمن يبارزون بالعداوة‏؟‏ فإنه العظيم الذي خلق الأشياء وركب فيها قواها الحاملة لها، وإن بطشه شديد، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 47‏]‏، فبارزوا الجبار بالعداوة، وجحدوا بآياته وعصوا رسوله، فلهذا قال‏:‏ ‏{‏فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا‏}‏ قال بعضهم‏:‏ وهي الشديدة الهبوب‏.‏ وقيل‏:‏ الباردة‏.‏ وقيل‏:‏ هي التي لها صوت‏.‏

والحق أنها متصفة بجميع ذلك، فإنها كانت ريحا شديدة قوية؛ لتكون عقوبتهم من جنس ما اغتروا به من قواهم، وكانت باردة شديدة البرد جدا، كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏6‏]‏، أي‏:‏ باردة شديدة، وكانت ذات صوت مزعج، ومنه سمي النهر المشهور ببلاد المشرق ‏"‏صرصرا لقوة صوت جريه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ‏}‏ أي‏:‏ متتابعات، ‏{‏سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا‏}‏ ‏[‏الحاقة‏:‏ 7‏]‏، كقوله ‏{‏فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 19‏]‏، أي‏:‏ ابتدئوا بهذا العذاب في يوم نحس عليهم، واستمر بهم هذا النحس سبع ليال وثمانية أيام حتى أبادهم عن آخرهم، واتصل بهم خزي الدنيا بعذاب الآخرة؛ ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى‏}‏ ‏[‏أي‏]‏ أشد خزيا لهم، ‏{‏وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ‏}‏ أي‏:‏ في الأخرى، كما لم ينصروا في الدنيا، وما كان لهم من الله من واق يقيهم العذاب ويدرأ عنهم النكال‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ‏}‏ قال ابن عباس، وأبو العالية، وسعيد بن جبير، وقتادة، والسدي، وابن زيد‏:‏ بينا لهم‏.‏

وقال الثوري‏:‏ دعوناهم‏.‏

‏{‏فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى‏}‏ أي‏:‏ بصرناهم، وبينا لهم، ووضحنا لهم الحق على لسان نبيهم صالح صلى الله عليه وسلم، فخالفوه وكذبوه، وعقروا ناقة الله التي جعلها آية وعلامة على صدق نبيهم، ‏{‏فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ‏}‏ أي‏:‏ بعث الله عليهم صيحة ورجفة وذلا وهوانا وعذابا ونكالا ‏{‏بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ‏}‏ أي‏:‏ من التكذيب والجحود‏.‏

‏{‏وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا ‏[‏وَكَانُوا يَتَّقُونَ‏]‏ أي‏:‏ من بين أظهرهم، لم يمسهم سوء، ولا نالهم من ذلك ضرر، بل نجاهم الله مع نبيهم صالح ‏[‏عليه السلام‏]‏ بإيمانهم، وتقواهم لله، عز وجل‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 24‏]‏

‏{‏وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ‏}‏‏.‏

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ‏}‏ أي‏:‏ اذكر لهؤلاء المشركين يوم يحشرون إلى النار ‏{‏يُوزَعُونَ‏}‏، أي‏:‏ تجمع الزبانية أولهم على آخرهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 86‏]‏، أي‏:‏ عطاشا‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا‏}‏ أي‏:‏ وقفوا عليها، ‏{‏شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ أي‏:‏ بأعمالهم مما قدموه وأخروه، لا يُكْتَم منه حرف‏.‏

‏{‏وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا‏}‏ أي‏:‏ لاموا أعضاءهم وجلودهم حين شهدوا عليهم، فعند ذلك أجابتهم الأعضاء‏:‏ ‏{‏قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ أي‏:‏ فهو لا يخالف ولا يمانع، وإليه ترجعون‏.‏

قال الحافظ أبو بكر البزار‏:‏ حدثنا محمد بن عبد الرحيم، حدثنا علي بن قادم، حدثنا شريك، عن عبيد المُكْتَب، عن الشعبي ، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه، قال‏:‏ ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وتبسم، فقال‏:‏ ‏"‏ألا تسألوني عن أي شيء ضحكت‏؟‏‏"‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله من أي شيء ضحكت‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏عجبت من مجادلة العبد ربه يوم القيامة، يقول‏:‏ أي ربي، أليس وعدتني ألا تظلمني‏؟‏ قال‏:‏ بلى فيقول‏:‏ فإني لا أقبل عليّ شاهدا إلا من نفسي‏.‏ فيقول الله تبارك وتعالى‏:‏ أو ليس كفى بي شهيدا، وبالملائكة الكرام الكاتبين‏؟‏‏!‏ قال‏:‏ فيردد هذا الكلام مرارا‏"‏‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏فيختم على فيه، وتتكلم أركانه بما كان يعمل، فيقول‏:‏ بُعْدًا لكُنَّ وسُحقا، عنكن كنت أجادل‏"‏‏.‏

ثم رواه هو وابن أبي حاتم، من حديث أبي عامر الأسدي، عن الثوري، عن عُبيد المُكْتَب، عن فُضيل بن عمرو، عن الشعبي ثم قال‏:‏ ‏"‏لا نعلم رواه عن أنس غير الشعبي‏"‏‏.‏ وقد أخرجه مسلم والنسائي جميعا عن أبي بكر بن أبي النضر، عن أبي النضر، عن عُبَيد الله بن عبد الرحمن الأشجعي، عن الثوري به‏.‏ ثم قال النسائي‏:‏ ‏"‏لا أعلم أحدا رواه عن الثوري غير الأشجعي‏"‏‏.‏ وليس كما قال كما رأيت، والله أعلم‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا أحمد بن إبراهيم، حدثنا إسماعيل بن عُلَّية، عن يونس ابن عُبَيْد، عن حُميد بن هلال قال‏:‏ قال أبو بُرْدَة‏:‏ قال أبو موسى‏:‏ ويدعى الكافر والمنافق للحساب، فيعرض عليه ربه- عز وجل- عمله، فيجحد ويقول‏:‏ أي رب، وعزتك لقد كتب على هذا الملك ما لم أعمل‏!‏ فيقول له الملك‏:‏ أما عملت كذا، في يوم كذا، في مكان كذا‏؟‏ فيقول‏:‏ لا وعزتك، أي رب ما عملته‏.‏ ‏[‏قال‏]‏ فإذا فعل ذلك خُتِم على فيه- قال الأشعري‏:‏ فإني لأحسب أول ما ينطق منه فخذه اليمنى‏.‏

وقال الحافظ أبو يعلى‏:‏ حدثنا زُهَيْر حدثنا حسن، عن ابن لَهِيعة‏:‏ قال دَرّاج عن أبي الهيثم عن أبى سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏إذا كان يوم القيامة عُرّف الكافر بعمله، فجحد وخاصم، فيقال‏:‏ هؤلاء جيرانك، يشهدون عليك‏؟‏ فيقول‏:‏ كذبوا‏.‏ فيقول‏:‏ أهلك ‏[‏و‏]‏ عشيرتك‏؟‏ فيقول‏:‏ كذبوا‏.‏ فيقول‏:‏ احلفوا فيحلفون، ثم يصمتهم الله وتشهد عليهم ألسنتهم، ويدخلهم النار‏"‏‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ وحدثنا أبي، حدثنا أحمد بن إبراهيم، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث‏:‏ سمعت أبي‏:‏ حدثنا علي بن زيد، عن مسلم بن صُبيْح أبي الضُّحى، عن ابن عباس‏:‏ أنه قال لابن الأزرق‏:‏ إن يوم القيامة يأتي على الناس منه حين، لا ينطقون ولا يعتذرون ولا يتكلمون حتى يؤذن لهم، ثم يؤذن لهم فيختصمون، فيجحد الجاحد بشركه بالله، فيحلفون له كما يحلفون لكم، فيبعث الله عليهم حين يجحدون شهداء من أنفسهم، جلودهم وأبصارهم وأيديهم وأرجلهم، ويختم على أفواههم، ثم يفتح لهم الأفواه فتخاصم الجوارح، فتقول‏:‏ ‏{‏أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ‏}‏ فتقر الألسنة بعد الجحود‏.‏

وقال ابن أبي حاتم‏:‏ حدثنا عبدة بن سليمان، حدثنا ابن المبارك، حدثنا صفوان بن عمرو، عن عبد الرحمن بن جبير الحضرمي، عن رافع أبي الحسن- وصف رجلا جحد- قال‏:‏ فيشير الله إلى لسانه، فيربو في فمه حتى يملأه، فلا يستطيع أن ينطق بكلمة، ثم يقول لآرابه كلها‏:‏ تكلمي واشهدي عليه‏.‏ فيشهد عليه سمعه وبصره وجلده، وفرجه ويداه ورجلاه‏:‏ صنعنا، عملنا، فعلنا‏.‏

وقد تقدم أحاديث كثيرة، وآثار عند قوله تعالى في سورة يس‏:‏ ‏{‏الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 65‏]‏، بما أغنى عن إعادته هاهنا‏.‏وقال ابن أبي حاتم- رحمه الله- ‏:‏ حدثنا أبي، حدثنا سويد بن سعيد، حدثنا يحيى بن سُلَيم الطائفي، عن ابن خُثَيْم، عن أبي الزبير ، عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ لما رجعت إلى النبي صلى الله عليه وسلم مهاجرة البحر قال‏:‏ ‏"‏ألا تحدثون بأعاجيب ما رأيتم بأرض الحبشة‏؟‏‏"‏ فقال فتية منهم‏:‏ بلى يا رسول الله، بينا نحن جلوس إذ مرت علينا عجوز من عجائز رهابينهم، تحمل على رأسها قلة من ماء، فمرت بفتى منهم فجعل إحدى يديه بين كتفيها، ثم دفعها فخرت على ركبتيها، فانكسرت قلتها‏.‏ فلما ارتفعت التفتت إليه فقالت‏:‏ سوف تعلم يا غُدَر، إذا وضع الله الكرسي، وجمع الأولين والآخرين، وتكلمت الأيدي والأرجل بما كانوا يكسبون، فسوف تعلم كيف أمري وأمرك عنده غدا‏؟‏ قال‏:‏ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏صَدَقَتْ ‏[‏و‏]‏ صدقت، كيف يُقدس الله قوما لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم‏؟‏‏"‏‏.‏

هذا حديث غريب من هذا الوجه‏.‏ ورواه ابن أبي الدنيا في كتاب الأهوال‏:‏ أخبرنا إسحاق بن إبراهيم قال‏:‏ أخبرنا يحيى بن سليم، به‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ‏}‏ أي‏:‏ تقول لهم الأعضاء والجلود حين يلومونها على الشهادة عليهم‏:‏ ما كنتم تتكتمون منا الذي كنتم تفعلونه بل كنتم تجاهرون الله بالكفر والمعاصي، ولا تبالون منه في زعمكم؛ لأنكم كنتم لا تعتقدون أنه يعلم جميع أفعالكم؛ ولهذا قال‏:‏ ‏{‏وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ‏}‏ أي‏:‏ هذا الظن الفاسد- وهو اعتقادكم أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملون- هو الذي أتلفكم وأرداكم عند ربكم، ‏{‏فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ‏}‏ أي‏:‏ في مواقف القيامة خسرتم أنفسكم وأهليكم‏.‏

قال الإمام أحمد- رحمه الله- ‏:‏ حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن عمارة، عن عبد الرحمن ابن يزيد ، عن عبد الله قال‏:‏ كنت مستترًا بأستار الكعبة فجاء ثلاثة نفر‏:‏ قرشي، وختناه ثقفيان- أو ثقفي وختناه قرشيان- كثير شحم بطونهم قليل فقه قلوبهم، فتكلموا بكلام لم أسمعه، فقال أحدهم‏:‏ أترون أن الله يسمع كلامنا هذا‏؟‏ فقال الآخر‏:‏ إنا إذا رفعنا أصواتنا سمعه، وإذا لم نرفعه لم يسمعه، فقال الآخر‏:‏ إن سمع منه شيئا سمعه كله‏.‏ قال‏:‏ فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏مِنَ الْخَاسِرِينَ‏}‏‏.‏

وكذا رواه الترمذي عن هناد، عن أبي معاوية، بإسناده نحوه‏.‏ وأخرجه أحمد ومسلم والترمذي أيضا، من حديث سفيان الثوري، عن الأعمش، عن عُمارة بن عمير، عن وهب بن ربيعة، عن عبد الله بن مسعود، رضي الله عنه، بنحوه ‏.‏ ورواه البخاري ومسلم أيضا، من حديث السفيانين، عن منصور، عن مجاهد، عن أبي معمر عبد الله بن سَخْبرة، عن ابن مسعود به‏.‏

وقال عبد الرزاق‏:‏ أخبرنا معمر، عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله‏:‏ ‏{‏أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ‏}‏ قال‏:‏ ‏"‏إنكم تُدعَون مُفَدَّمًا على أفواهكم بالفدام، فأول شيء يبين عن أحدكم فخذه وكفه ‏"‏‏.‏

قال معمر‏:‏ وتلا الحسن‏:‏ ‏{‏وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ‏}‏ ثم قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏قال الله أنا مع عبدي عند ظنه بي، وأنا معه إذا دعاني‏"‏ ثم أفترَّ الحسن ينظر في هذا فقال‏:‏ ألا إنما عمل الناس على قدر ظنونهم بربهم، فأما المؤمن فأحسن الظن بربه فأحسن العمل، وأما الكافر والمنافق فأساءا الظن بالله فأساءا العمل‏.‏ ثم قال‏:‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ‏}‏‏.‏

وقال الإمام أحمد‏:‏ حدثنا النضر بن إسماعيل القاص - وهو أبو المغيرة- حدثنا ابن أبي ليلى، عن أبي الزبير، عن جابر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا يموتن أحد منكم إلا وهو يحسن بالله الظن، فإن قوما قد أرداهم سوء ظنهم بالله، فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ‏}‏ أي‏:‏ سواء عليهم أصبروا أم لم يصبروا هم في النار، لا محيد لهم عنها، ولا خروج لهم منها‏.‏ وإن طلبوا أن يستعتبوا ويبدوا أعذارا فما لهم أعذار، ولا تُقَال لهم عثرات‏.‏

قال ابن جرير‏:‏ ومعنى قوله‏:‏ ‏{‏وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا‏}‏ أي‏:‏ يسألوا الرجعة إلى الدنيا، فلا جواب لهم- قال‏:‏ وهذا كقوله تعالى إخبارا عنهم‏:‏ ‏{‏قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 106- 108‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏25- 29‏]‏

‏{‏وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ‏}‏‏.‏

يذكر تعالى أنه هو الذي أضل المشركين، وأن ذلك بمشيئته وكونه وقدرته، وهو الحكيم في أفعاله، بما قَيَّض لهم من القرناء من شياطين الإنس والجن‏:‏ ‏{‏فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ حَسَّنوا لهم أعمالهم في الماضي، وبالنسبة إلى المستقبل فلم يروا أنفسهم إلا محسنين، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 36، 37‏]‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ‏}‏ أي‏:‏ كلمة العذاب كما حق على أمم قد خلت من قبلهم، ممن فعل كفعلهم، من الجن والإنس، ‏{‏إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ‏}‏ أي‏:‏ استوَوَا هم وإياهم في الخسار والدمار‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ‏}‏ أي‏:‏ تواصوا فيما بينهم ألا يطيعوا للقرآن، ولا ينقادوا لأوامره ، ‏{‏وَالْغَوْا فِيهِ‏}‏ أي‏:‏ إذا تلي لا تسمعوا له‏.‏ كما قال مجاهد‏:‏ ‏{‏وَالْغَوْا فِيهِ‏}‏ يعني‏:‏ بالمكاء والصفير والتخليط في المنطق على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ القرآن قريش تفعله‏.‏

وقال الضحاك، عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏وَالْغَوْا فِيهِ‏}‏ عيبوه‏.‏

وقال قتادة‏:‏ اجحدوا به، وأنكروه وعادوه‏.‏

‏{‏لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ‏}‏ هذا حال هؤلاء الجهلة من الكفار، ومن سلك مسلكهم عند سماع القرآن‏.‏ وقد أمر الله- سبحانه- عباده المؤمنين بخلاف ذلك فقال‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 204‏]‏‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ منتصرا للقرآن، ومنتقما ممن عاداه من أهل الكفران‏:‏ ‏{‏فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا‏}‏ أي‏:‏ في مقابلة ما اعتمدوه في القرآن وعند سماعه، ‏{‏وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ‏}‏ أي‏:‏ بشَرِّ أعمالهم وسيِّئ أفعالهم ‏{‏ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأسْفَلِينَ‏}‏‏.‏

قال سفيان الثوري، عن سلمة بن كُهَيْل، عن مالك بن الحصين الفزاري، عن أبيه، عن علي،رضي الله عنه، في قوله‏:‏ ‏{‏الَّذَيْنِ أَضَلانَا‏}‏ قال‏:‏ إبليس وابن آدم الذي قتل أخاه‏.‏

وهكذا روى حبة العُرَنِي عن علي، مثل ذلك‏.‏

وقال السدي، عن علي‏:‏ فإبليس يدعو به كل صاحب شرك، وابن آدم يدعو به كل صاحب كبيرة، فإبليس- لعنه الله- هو الداعي إلى كل شر من شرك فما دونه، وابن آدم الأول‏.‏ كما ثبت في الحديث‏:‏ ‏"‏ما قتلت نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها؛ لأنه أول من سن القتل‏"‏‏.‏

وقوله ‏{‏نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا‏}‏ أي‏:‏ أسفل منا في العذاب ليكونا أشد عذابا منا؛ ولهذا قالوا‏:‏ ‏{‏لِيَكُونَا مِنَ الأسْفَلِينَ‏}‏ أي‏:‏ في الدرك الأسفل من النار، كما تقدم في ‏"‏الأعراف‏"‏ من سؤال الأتباع من الله أن يعذب قادتهم أضعاف عذابهم، قال‏:‏ ‏{‏لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 38‏]‏ أي‏:‏ إنه تعالى قد أعطى كلا منهم ما يستحقه من العذاب والنكال، بحسب عمله وإفساده، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 88‏]‏‏.‏